مقالات الرأي
أخر الأخبار

(ود الطيار) والاسرة المصرية في الحرب السودانية(5)

(ود الطيار) والاسرة المصرية في الحرب السودانية(5)

 

تحركت السيارة يقودها (عمار) وقد كان قديراً متماسكاً اكسبه مشوار الذهاب خبرة في الطرق الاكثر اماناً والمخارج ما بين الازقة والحواري

و تمني ان يكون مشوار الاياب اكثر اماناً مما سبقه….

 

تنفس متولي وزوجه الصعداء ووقعت عيناه علي عينيها وتحدثت لغة العيون وقبل ان تكمل حديثها اشتعلت نيران الاشتباك كثيفة( بشارع المعرض) وكان (عمار) اكثرهم انتباهاً فهو (القائد) فدخل بسرعة الي شارع جانبي وفضل السير داخل حي (الدرايسة) وقد وجم الجميع في تلك اللحظة وتعطلت كل اللغات وصوت الرصاص يصم اذانهم ولم تحدثهم انفسهم اطلاقاً بالالتفات للخلف… .. و مازالت (حبيبة) في حضن ابيها و(حنين) علي صدر والدتها ونَظر كلاهما (متولي وزوجه) في ذات اللحظة يتجه نحو (يوسف) وكانهما يقولان (يوسف ايها الصديق افتنا) في سنواتك وسنابلها الخضر التي عشتها بالسودان هل ستاكلها هذه الحرب…

 

(عمار) قائد الرحلة يقود السيارة بكل حواسه واحيانا يزيد عليها الحاسة السادسة والسابعة و ربما يخلق بعداً رابعاً وهذا حقاً ما يحتاجه (القادة) فالوضع عصي علي الوصف والتعبير….

وصلت السيارة تحت النيران بحمد الله شارع( الستين) الذي تغيرت ملامحه تماما فلم يكن في يوم من الايام خالياً من المارة و السيارات والباعة والمحلات تماماً يبدو الشارع اوسع مما كان عليه تم تجاوزه بسرعة كبيرة نحو شارع (الهوي) الذي يبدو اكثر من هادئاً واصوات الرصاص تبعد قليلاً قليلاً…

 

كانت اسرة ( عمار) اكثر قلقاً عليه مما تنقله لهم الوسائط من فظائع… (خرج احدهم للبحث عن جرعة ماء ولم يعد وجدوا (الجردل) و جاري البحث عن المفقود وعن اخر مات من العطش داخل بيته و اخرون يتم اخراجهم من بيوتهم ومن يعترض يتم قتله امام اسرته كل صور القبح تمر علي اخيلة الاسرة بينما (عمار) في مهمة انسانية جمالية تسطر قيم الوفاء والانسانية حفظه الله

 

الان السيارة في شوارع الكلاكلة تتهادي وتمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل فهذه شوارعها تعرفها جيداً… توقفت السيارة امام باب ابيض كبير سرعان ما تم فتحه وهنا اخذ الجميع نفساً عميقاً ثم زفروه في ذات اللحظة في اجواء الكلاكلة

وكأنهم لم يتنفسوا اطلاقاً طوال مشوارهم… لم يتحرك احد من كرسيه بعد توقف السيارة داخل بيت (عمار) وكانهم غير مصدقين انهم وصلوا بسلام كانت عيونهم تكاد ان تخرج من رؤوسهم ما مروا به خلال العشرة ايام انتهي الان وكانه كابوس مزعج….فتح احد افراد الاسرة المنتظرين باب السيارة لهم فانتبهوا

رحبت بهم اسرة (عمار) ترحيباً حاراً وحمدوا الله علي سلامتهم واخذ كل فرد مكانه ليرتاحوا قليلاً وسرعان ما اتت صينية الغداء (الما خمج) الا انها خالية من خبز الرغيف فالحياة متوقفة والافران لم تعمل الا ان البدائل كانت حاضرة ونساء السودان ما زلن بخير (القراصة الحااارة) و(الكسرة الرهيفة) فقال عمار مبتسماً بعد ان رفع الغطاء عن المائدة بلغة بليغة (اهلنا لهم خبزهم مثل ما لكُمُ) فضحك الجميع ولسان حالهم يردد ابيات ايليا ابو ماضي *( انما الغبطة فكرة.. وربما استوطنت الكوخ وما في الكوخ كسرة)*

 

قضي (محمد متولي) ليلته تلك بالكلاكلة يلتحف سماء السودان الجميلة وارتباط اهل السودان بالسماء قديم قدم التاريخ فنومهم وحلهم وترحالهم مرتبط بالسماء يغمضون اعينهم ويفتحونها علي النجوم َومراقدها وبها يهتدون.. لا يعرفون النوم داخل الغرف المغلقة وتكييف الهواء يتنفسون الاوكسجين النقي في البراحات حتي في ليالي البرد وسقفهم السماء ودليلهم النجوم وانيسهم القمر … جاء في سورة الانبياء الاية (32) (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن اياتها معرضون) والاية (16) من سورة النحل

(وعلامات و بالنجم هم يهتدون) فعلاقة اهل السودان الروحية و المادية بالسماء لا اول لها ولا اخر وبها حكايات واشعار واسمار وقصص و نوادر حتي (الهمبتة) والانقلابات العسكرية و شرور اخري تحدث ليلاً و ممارسة الحب وجمال الحياة واستمرارها عندهم مرتبط بالسماء وليلها المقمر او البهيم وكل التضاد الذي تقم عليه الحياة وهذا الكون ويقول شاعرهم (الهمباتي) وهو يحكي صباحاً عن لقاء محبوبته في الليلة السابقة

*(البارح انا قصيبة مدالق السيل*

*في و نسة وضحك لمن قسمنا الليل*

*لا بخلت علي لا جادت كمان بالحيل)*

وربما يغضب المعجبون بالهمبتة وادبها لو استرسلنا في الشرح والنقد لكنهم ينسبون العادة لصعاليك العرب ويتناسون اننا في الالفية الثانية

…….

……

الاسعار ترتفع بشكل جنوني في هذه الحرب والوقود علي وجه الخصوص بلغ مبالغ خرافية… ظل ود (الطيار) في تواصل مستمر مع متولي واطراف اخري لاخراج هذه الاسرة الي القرية الوديعة وكانت كل الجهات التي اتصل عليها تؤكد صعوبة الوضع وعدم امكانية التحرك تحت وابل الرصاص وعزيمة (ود الطيار) واصراره تجعله يطرق كل الابواب.. …

 

لكن التدبير الرباني مختلف تماماً يتصل (ود النقيش) حاملاً بشري وجود (دفار) يحمل خضروات نحو السوق المركزي فالحياة لا تتوقف واتفقوا معه علي انجاز المهمة بعد ان وفروا له الديزل مع مبلغ معتبر من المال… وسوق الازمات حكاية اخري… َ

……

……

انها الليلة الاولي بعد (ليال عشر) التي سوف ينام فيها متولي بعد( الشفع والوتر) نوماً اكثر راحة وقد تراكم عليه وعلي اسرته تعب الليالي السابقة….

 

 

 

يتبع

 

سلام

محمد طلب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى