
الصبي الشقي والميري زمن النميري
وانا صبي في بداية التحول الذي يطرأ علي الذكور في عمر ما كنت مغرماً بمتابعة الاخبار وعلي وجه الخصوص نشرة العاشرة صباحاً علي الاذاعة والتي تصادف فسحة الفطور ايام المدرسة والتي كنا نعود فيها لبيوتنا لتناول وجبة الفطور بالبيت عندما كان الزمن وقتها يسمح بالكثير ومثلما كنت مغرماً (بالكسرة) في الفطور واتابع مع ذلك اخبار العاشرة صباحا التي تنتهي بالوفيات كنت ايضاً متابعاً جيداً او قل متعطشاً للمعرفة عبر نشرة التاسعة بالتلفزيون التي تنتهي بالنشرة الجوية وقبلها اسعار السلع والخضروات والفواكه باسواق العاصمة وهي الاسعار الرسمية التي تحددها الدولة ووزاراتها المعنية بناء علي معطيات معينة ودراسات دقيقة ومسوحات تعلمها الجهات المعنية بالامر وكان ذلك في عهد الرئيس الاسبق جعفر محمد نميري رحمه الله.. سمعت نشرة الاخبار تلك الليلة وحفظت اسعار الخضروات بشكل جيد جداً لعلمي ان غداً هو يومي للذهاب للسوق عندما كانت المهام تقسم علي افراد الاسرة وكل يعلم مهمته ووقتها.. واسررت في نفسي انني سوف اشتري بالاسعار المذكورة ولن ازيد (تعريفة) والتعريفة لمن لايعرفها هي نصف القرش وتساوي خمسة مليم لان القرش يساوي عشرة مليمات والجنيه المعروف الان والذي حولوه الي (دينار) ثم عاد جنيهاً بعد ضياع اربعة من اصفاره والذي لا يساوي شئياً الان بعد ان كانت قيمته مئة قرش اي الف مليم ويعادل ثلاثة دولار و(حليل زمن الفريني) كانت له قيمة عالية مثلما كان لبلد اللاءت الثلاث قيمة وقول يتبعه فعل قبل ان تسقط للدرك الاسفل ونصبح (ملطشة) ومرتعاِ لمخابرات كل العالم
و اصبح القادة يبيعون السادة و السيادة و(كوم زيادة) بابخس الاثمان واصبحنا دولة (هلفوتة) مخترقة سياسياً وامنياً وعسكرياً وجيوشنا لا حصر لها والبنادق بالفنادق والكل اضحي سارق وللخنادق لن نفارق نتقاتل كي يموت الوطن….
ذهبت في ذاك الصباح الباكر للسوق ورائحة (القُنانة) بكانونها وقانونها تدعوني للعودة بسرعة (لكباية الشُب) المعلومة والمخصصة (لزول السوق) دون غيره مما يجعل مشوار السوق لطيفاً ومرغوباً ومن اول السوق وجدت عمك( فلان) يبيع خضاره بالكوم فقلت له (عاوز كيلو بطاطس) فرد علي بعنجهية ما عندنا بالكيلو (كوم بس) وصرنا في شد وجذب وكاد ان يضربني واخيراً اقنعه البعض ان يبيع لي بالكيلو ولم يكن معه ميزان فتبرع احدهم و ذهب و وزن لي كيلو وباعني الكيلو باكثر من سعره الذي اعرفه جيدا فقلت له سعر الكيلو كذا فقال لي انا من الاول قلت ليك ماعندي بالكيلو واراد ان يخطف مني الكيلو لكني اعطيته المبلغ الذي طلبه وقلت له بغضب صبياني (بوريك) وكنت قد نويت ان اذهب للشرطة التي كانت في خدمة الشعب عين ساهرة ويد امينة وفعلا ذهبت للشرطة وعلي الفور حضرت معي قوة وقبضوا عليه و وضعوه بالحراسة طبعاً كان ذلك قبل تعقيدات ( النيابة) والاجراءات التي تعطل كثيراً والغريب انني وبعد اربعين سنة من هذه الحادثة ذهبت للشرطة لغرض شبيه فتم الزج بي انا الشاكي بالحراسة بدلاً عن المشكي نتيجة تعنت الظابط الذي امر بحبسي بعد نقاش طويل وهذه حكاية اخري
ولنعد للوراء فبعد حبس الرجل وعودتي للبيت وجدت تجمهر من الناس امام البيت وتجمع اخر عند بوابة مركز الشرطة التي لاتبعد عن بيتنا كثيراً وعند دخولي البيت وجدت اهلي هائجون فقد تم شحنهم بانني المخطئ ولم يستمعوا لي بل ضربوني كيف اشتكي (فلان) انت ما (عارف ديل اهلنا) في زول بشتكي اهلو. وووو وكثير من الكلام الذي خلق عندي إضطراب في طريقة التفكير اذن ما هي فائدة اعلان اسعار السلع التي ينشرونها علينا ان لم نكن نلتزم بها وندافع عن حقوقنا..
وعرفت لاحقاً معني ما قاله الفيلسوف افلاطون *الشعب الذي لايدافع عن حقوقه في الحرية والحكم تتحكم به العصابات واللصوص*
وكيف يكون ما فعلته خطأ وانا من التزمت بما نشرته الدولة وكيف يكون ليس من حقي مقاضاة( اهلي) ان كانوا علي باطل.. احدث ذلك اهتزازاً في تفكيري والقناعات التي يتم بناءها في ذلك العمر واجبروني وانا صامت ان اذهب واتنازل عن بلاغي.. وفي المساء اجبروني ان اذهب الي( فلان) واعتذر له وقد فعلت لكنه لم يقبل رغم انه المخطئ بل اساءني وانا صامت.. كل ذلك و انا مجبراً وتزعزت ثقتي بنفسي وان ما قاله اهلي والمجتمع هو القيم الصحيحة و اعدت بناء ما تهدم بعد سنوات طويلة… ومنعوني من الذهاب للسوق لفترة والغريب في الامر بعد عودتي للسوق بعد فترة وجدت احتراماً غير مسبوق والكل ينادي علي …… لقد كان الامر مدهشاً استغرق مني وقتاً لفهمه انهم يريدون ان (يتكافوا شري) وهي المرة الاولي التي اعرف فيها ان ما فعلته يصنف من انواع
(الشرور) … وهكذا تربينا علي ان نترك حقوقنا يعوث بها الاخرون فساداً حتي تم طردنا من بيوتنا وسرقة املاكنا في وضح النهار و(الحكومة تعاين) ونحن نري سرقتنا وطردنا
ذكرتني حادثة الصبا الباكر تلك قول للفيلسوف افلاطون
*الانسان عندما يطبق القانون يسمو علي الحيوان وحينما يبتعد عن القانون والعدل ينحط ويصبح اقل من الحيوان*
الا ان ماراه الان اعاد لي ذات الاضطراب القديم اذا انا القوانين هنا تُسن لحماية المجرم والخائن وتمنحه الحصانة… يا الهي الي متي يسكننا هذا الاضطراب الفكري والعاطفي والوجداني.. وربما يعيدني لرشدي قول ابن رشد *التجارة بالاديان هي التجارة الرابحة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل*
واحسب ان الجهل واللاوعي يسكن هذه الامة وعليه يجب ان تقف هذه الحرب لبث الوعي و (وداع الجهل المخيف المعتدي الذي طال مثواه بهذا البلدِ)
ومثلما قال افلاطون *من يرفض اليوم القبول بالنصيحة التي لا تكلفه شئياً سوف يضطر بالغد لشراء الاسف باعلي الاثمان* واتمني الا يحدث ذلك حتي بعد مرور سبعة اشهر علي هذه الحرب اللعينة
سلام
محمد طلب
اسمرة ١٩ نوفمبر