رحلت الشهيدة فوزية بت العمدة (بت شامة) و دمها في عنق من أشعل هذه الحرب ✍️ الباقر عبد القيوم علي

همس الحروف
رحلت الشهيدة فوزية بت العمدة (بت شامة) و دمها في عنق من أشعل هذه الحرب
الباقر عبد القيوم علي
كتب الله لنا أن نعيش تحت سماوات وطن جريح ، و هذا قدرنا ، و ما أصبرنا على مراد الله ، فلقد إستوطنت في قلوبنا المفجوعة آلام و آهات و أحزان عميقة بعد إندلاع شرارة الحرب التي أسماها من كان طرفاً في صناعتها بأنها عبثية ، فسبعة من الشهور الحالكات السواد و الدامسات العتمة و الظلمة ، و نحن تغمرنا أحزان دفينة ، تطاول سواد حلكتها و غطي جميع مساحات الأمل التي كانت تؤانسنا بين الفينة و الأخرى ، حتى أصبحت أسباب الحياة مظلمة و شبه مستحيلة بعد أن تحولت عاصمتنا الي حُطام و خراب ، حيث كانت عبثية الحرب فيها سبباً رئيساً في إفقار الشعب بأكمله من كل شيء حتى طال التجريد عاداتنا و قيمنا النبيلة و حتى لم تسلم من ذلك أداء شعائرنا فمنعونا المساجد و كذلك المقابر حتى وصل بنا الحال إلى أن ندفن موتنا في بيوتنا خشية آلة الحرب أن تطالنا و نحن نستر موتانا ، فقتلوا فينا كل شيء .
في هذا الجو الخانق ، و تحت دوي الإنفجارات و ازيز الطائرات الحربية و إنعدام كل الخدمات الضرورية كانت هنالك أسرة سليمان بابكر فريجون صابرة محتسبة في الخرطوم ، وقد تلاحمت صفوفها من أجل فتح نفاج في جدار هذه المحنة عله أن يدخل عليهم بصيص أمل من نور فجر حسن الظن بالله ، ليبدد لهم و لكثير من أهل السودان عتمة مصيرهم المحتوم في ظل حرب ليس لها أي هدف معلوم خلاف الإنتصار للذات ، و عشماً منهم في غدٍ زاهرٍ يستطيع أن ينهض به هذا الوطن الكسيح من كبوته بإنتصار عزيز لقوات شعبنا المسلحة تهتز به أركان الدنيا و الذي حتماً سيأتي و إن طال به أمد الزمان ، وذلك بعزم أبناء شعبنا الأوفياء و الأبرار ، و من داخل هذه الدار التي كانت تدور فيها رحى حرب ضروس ضد الظروف و محاولة التغلب عليها في ظل إنعدام تام لكل شيء ، و هذا ما كانت تعيشه الخرطوم في هذه الأيام و ما زالت ، فقد ظلت الدكتورة هاجر سليمان أحد جنود جيشنا الأبيض مستلة سيفها تقاتل بضراوة لوحدها داخل هذه المساحة العزيزة من وطننا الحبيب من أجل تطبيب أهلها الذين إستصعب خروجهم من جحيم هذه الحرب بسبب ظروفهم الصحية المعقدة ، فتفانت إيما تفاني في رعاية أخوها حسن الذي كان مكسوراً في حوضه و يحتاج إلى عناية خاصة ، و كما كانت تشرف على بنات خالاتها و صويحبات أمها عوضية و فتحية حيث كانت أحدهما تعاني من خشونة مزمنة في ركبتيها ، و كذلك تقاتل بشراسة في تطبيب أمها فوزية بنت العمدة تلك المرأة التي تقل مساحات الأمكنة بين السطور لوصفها مهما إجتهدنا في ذلك ، فكانت مصابة بداء السكر اللعين الذي تسبب في بتر ساقيها ، ثم أفقدها بعد ذلك بصرها و لكن على الرغم من ذلك كانت مؤمنة صابر محتسبة ، راضيةً بقضاء الله و قدره ، فظلت د. هاجر تقاتل في هذا الميدان و وسط الأحراش وحدها بدون معينات و في ظل إنقطاع جميع الخدمات كانت هذه شامخة بشموخ هذا الوطن العظيم و بشرف الجندية تؤدي واجبها و هي مجهولة الهوية لا يعلم بمكانها أحد إلا خالقها في أماكن كانت مضيئة و تصدر في يوم ما المعرفة إلى جميع أنحاء العالم ، تصارع من أجل البقاء لأهلها على أن يكونوا فقط في سجل قيد الحياة بالحد الأعلى من رعايتها و الأدني من توفر المعينات و إنعدام الدواء ، و ما أعظمها من راعي و ما اقدس مهمتها و ما أحوج الرعية لها في هذا البقعة من الأرض .
ففي لحظة صمت صادمة رحلت فوزية بت شامة أم الجميع و أختهم و سيدة بيتها و أميرة عرشها ، فكم كان فقدان البصر نعمة لها حتى لا ترى الخراب الذي طال مراتع طفولتها و الدمار الذي أصاب منابت صبوتها و كم كان بتر ساقها نعمة حتى لا تمشي بأقدامها على الأشلاء في مكان نشأتها ، و ها هو الحزن قد خيم على أماكن فرحتها ، فخبؤت انفاسها بعد عناء رحلة طويلة لم تعرف فيها الشقاء قط إلا في نهاية أيامها ، رحلت فوزية إلى رحاب سوح الجنان و تغمرها فرحة وعد الله بأن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و الذي ورد في محكم تنزيله وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فقد كان لها شرف نيل الشهادتين معا و ما أعظمهما من شهادات ، فنالت شهادة المبطون و شهادة المحارب ، و ها هي في كرنفال عرسها عند مليك مقتدر أحياء عند ربهم يرزقون ، وقد تعلق دمها في أعناق صانعي هذه الحرب اللعينة ، و ما أقصر رحلة الحياة و إن طالت بهم الأيام ، و عند الله تلتقي الخصوم ،
أحر التعازي لقطعة قلبها بنتها (هبة) و زوجها الهمام ( مروان ) ، و لأخويها الشقيقين ( مصطفى و إبراهيم ) أولاد العمدة ، و لتلك المحاربة الصامتة د. هاجر و أخوانها ، و لعموم أولاد و بنات (زوجها سليمان) الذين كانوا لها بمثابة أبنائها و اخوانها وازواجهم وزوجاتهم ، و للأخوين الباقر و محمد وشقيقاتهم أولاد خالتها السيدة بت إبراهيم فضل الله (أبناء أحمد علي) ، و لأهلها بطيبة الطيبة أحفاد الشيخ القرشي ود الزين ولخليفة السجادة الشيخ الطيب ولاحفاد إبراهيم فضل الله ، و لجميع الاهل بادرمان والخرطوم وبحري و كوستي والحصاحيصا ورفاعة وبلاد المهجر و لجميع آل العمدة وآل إبراهيم فضل الله و آل فريجون و لكل من يعرف فضلها ، أسأل الله أن ينزل عليهم غيثاً من السماء يملأ قلوب الجميع به ليكون لهم صبراً و سلواناً على عظيم مصابهم .
اللهم أرحمها ، و أغفر لها ، أعفوا عنها ، و ارزقها الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء ، وقيِض لبلادنا التي أحبتها كثيراً الأمن و الأمان و السلام ، و السلام عليها في عليائها بين الخالدين ، و إنا لله و إنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،