مقالات الرأي
أخر الأخبار

أهمية استلهام تجربة النموذج الكوري في الإدارة بالسودان ✍️ البروفسيور : فكري كباشي الأمين العربي

خرجت كوريا الجنوبية منهارة اقتصادياً وسياسياً من الحرب الاهلية الكورية التي وقعت ما بين 1950 – 1953م وحققت ما يسمى بـ (المعجزة الاقتصادية). فالتقدم السريع قد حظي باهتمام الاقتصاديين والاداريين داخل وخارج كوريا الجنوبية لمعرفة الدوافع والاسباب وراء نجاح الشركات الكورية التي تدار من خلال عقيدة ادارية وقيم ثقافية تاثرت باساليب ونظم العمل اليابانية وبالنظام الاداري الامريكي.

تشترك كوريا الجنوبية واليابان في الكثير من الخصائص الثقافية التي هي وليدة النفوذ الصيني في كلا من البلدين في الماضي. فالكوريون واليابانيون ينظرون لشؤونهم الداخلية وعلاقاتهم بالعالم الخارجي بمنظور الفلسفة الصينية وبصفة خاصة الكنفوشسية. اضافة الى ذلك تطبيق النظام الاداري الياباني بكوريا خلال فترة الاحتلال الياباني لشبة الجزيرة الكورية والتي امتدت من العام 1910 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وخلال تلك الفترة تركت الادارة اليابانية بصماتها الواضحة على الادارة الكورية، وبالرغم من تشابه الاخيرة مع نظام الادارة اليابانية توجد اختلافات بين النظامين وسيتم التعرض الى اهم الخصائص للادارة الكورية وتتمثل فيما يلي :

1. سيطرة الاخلاق الكنفوشيسية في العمل:

فان العلاقة بين الرئيس والمرؤس طبقا للثقافة الكنفوشيسية تحكمها مبادي العدالة والأخلاق وان مثل هذه المبادئ تؤثر على السلوك التنظيمي والاداري. كما تؤثر على الاتصالات والعلاقات الاجتماعية للافراد. فالملاحظ ان المرؤوس يظهر ولاء كبير للرئيس او المنظمة. ويقوم الرئيس في المقابل بمعاملة المرؤوس معاملة طيبة والعمل على مساعدته.

2. قيم الاسرة:

في ظل سيادة مبادئ الثقافة الكنفوشيسية فان علاقات افراد الاسرة بعضهم ببعض تعتمد على دور الاب حيث ان الاب صاحب السلطة الوحيد في الاسرة. وعندما يكون الاب قويا فان ذلك يؤدي الى احداث توازن وتالف بين افراد الاسرة. وتطبق مثل هذه العلاقة على المنظمات الكورية. فصاحب المنظمة او مالكها يعتبر بمثابة الاب وعلى المرؤوس طاعته واحترامه والوثوق به وعلى المالك او الرئيس الوفاء بمطالب المرؤوسين.

3. روح الفردية:

ان روح الجماعية او الفريق شعار قوي بالادارة الكورية حيث يتم التأكيد على العمل من خلال الفريق الواحد المتضامن. وعلى الرغم من ذلك فان المنظمات الكورية لا تهمل الروح الفردية من منطلق اقتناعها باهميتها في الابداع وقدرتها على تحقيق الاهداف المرسومة.

4. نظم ادارة الافراد:

هناك بعض الخصائص التي تميز نظم ادارة الافراد بالمنظمات الكورية، وتنطلق تلك الخصائص من الثقافة والمورثات الكورية. مثال ذلك نظم الاجور والمكافآت تعتمد اساسا على الاقدمية. ولكن مع نمو المنظمات وتقدم النظم الادارية بها بدأت تلك المنظمات في الاخذ بالأداء عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالرواتب والمكافآت، كما ان ترقية العاملين في الادارة التشغلية تعتمد في المقام على الاقدمية. وذلك على عكس مستوى الادارة العليا حيث تتم ترقية ومكافأة المديرين على اساس الاداء.

من المؤكد أنه لا يمكن استنساخ تجارب الدول بحذافيرها؛ فالظروف التي تطورت فيها كوريا والموقع الجغرافي يجعل من التجربة الكورية تجربة فريدة وخاصة بالشعب الكوري. غير أن هذا لا يمنع من استخلاص بعض الدروس والعبر التي يمكن أن تكون مفيدة لدولة السودان والتي عجزت عن تحقيق نهضة شاملة بالرغم من توفر موارد طبيعية ومالية ضخمة وتوجد في وضع أفضل من وضع كوريا بعد الحرب الكورية، ويتلخص أهم الدروس فيما يلي:

1. دور الدولة: لعبت الدولة دورًا كبيرًا وإيجابيًا في عملية التنمية الاقتصادية. ويشار إلى أن التدخلات كانت ترتكز على إرادة سياسية صلبة وثابتة وتعتمد التخطيط الاستراتيجي الشامل بعيد المدى والسياسات التنموية السليمة والملائمة للواقع الكوري. كما أن الدولة كانت ترى أن التنمية الاقتصادية ستساعدها على بناء قوتها لمواجهة الخطر الشمالي وعدم تكرار تجربة الاستعمار الياباني.

2. التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص:

أظهرت التجربة الكورية أن الحكومة كانت قادرة على تقليل مشاكل التنسيق بينها وبين القطاع الخاص وكانت قادرة، بفعل العلاقات التي نسجها البيروقراطيون مع الشركات الكبرى والبنوك، على الحصول على المعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات الاستثمارية وتوجيه الموارد إلى القطاعات التي يمكن أن تساهم بفاعلية في النمو الاقتصادي.

3. البحث العلمي:

أصدرت كوريا الكثير من القوانين لتشجيع البحث العلمي، وأنشأت العديد من المكاتب والهيئات لتنسيق البحوث، وأنفق كل من القطاع الخاص والعام موارد مالية ضخمة لردم الهوة التي كانت تفصل كوريا عن الدول المتقدمة، ثم أصبحت تنفق الآن لتطوير تكنولوجيا جديدة وتحقيق المزيد من التقدم خصوصًا في مجالات تقنية المعلومات وتقنية البايوتكنولوجيا، للحفاظ على مكانتها كقوة تكنولوجية.

4. الاستثمار في العنصر البشري:

أثبتت التجربة الكورية أن تطوير قدرات الشعوب عبر التعليم والتدريب ضروري لخلق شروط تسمح بمواكبة التطورات والقدرة على المنافسة وتحسين الإنتاجية مما يساهم بشكل حاسم في التنمية.

5. استغلال الظروف الدولية:

وجدت كوريا نفسها عالقة في الصراع الدائر بين المعسكرين الغربي والشرقي فاستغلت تحالفها مع الولايات المتحدة لتحقيق التنمية الاقتصادية كجزء من بناء قوتها الشاملة وتحقيق استقلال سياسي واقتصادي وتكنولوجي وصناعي.

وكخلاصة يمكن القول بأن التجربة الكورية سواء على مستوى النهوض أو على مستوى تجربة إعادة الإعمار بعد الخروج من حرب مدمرة، كانت ناجحة لكنها لم تكن مثالية ولذلك ينبغي الانتباه الى ان دفع الاعتماد على الشركات العملاقة أدى إلى تغول هذه الأخيرة واحتكارها لكل الأنشطة على حساب الشركات الصغيرة، كما نتج عن السياسات التنموية لكوريا اختلال كبير في التنمية بين سيول والمناطق الأخرى، وتفاوت كبير في الاستفادة من فرص التنمية بين الطبقتين الفقيرة والغنية؛ ما جعل الطبقة العاملة تدفع أثمانًا باهظة خلال السنوات الأولى حيث جُردت من كل حقوقها تقريبًا. ولكن بالعرغم من ذلك تبقى التجربة الكورية مثالاً يبرهن على أن الإرادة السياسة والتخطيط السليم والبعيد المدى وحسن استعمال الموارد، وقبل كل ذلك الانطلاق من تطوير ذاتي ونقدي للقيم والثقافة المحلية، قد يمكّن للشعب السوداني، في حال استلهامه للتجربة الكورية، من النهوض وتبوء مكانة تليق بتاريخه وحضارته العريقة والتي تعبر عنها الشواهد المكتشفة في العديد من المناطق والتي تبدأ من شمال السودان وتمتد الى كل انحائة.

البروفسيور : فكري كباشي الأمين العربي

15 مايو 2024م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!