مقالات الرأي
أخر الأخبار

لا (الشينات) الاربع ولا (شين) شوفتك يا وطن ✍️ محمد طلب

تمر الايام رتيبة وقاسية مريرة كالحنظل وكل يوم يمر نسمع بفقد عزيز وموت حبيب ان لم يكن بالرصاص فبما خلفته هذه الحرب في نفوس الراحلين والمنتظرين اجالهم وقد فقدنا الوطن ومسقط روؤسنا و اماكن (دفن الصُرة)….

 

ارتباط الانسان قبل الولادة يكون بوالدته عبر (الحبل السري)الذي يهبك باذن الله الحياة وكل شئ تحتاجه وعندخروجنا كانت الحبوبات يدفن الحبل السري و (التبيعة) بارض الوطن الذي سوف ترتبط به ويمنحك كل شئ هكذا تعلمنا من السالفين وسرورهن ودعواتهن (اريتكم السرور)… كما لا ادري اين تذهب (التباىع والحبال السرية) في عصر العولمة والرقميات واطفال الانابيب اما في سنوات الحروب اظن ان الام والطفل والتبيعة وحبلها السري وكل هذا الزخم تقضي عليها رصاصة طائشة او مقصودة دفعة واحدة وتنهشها الكلاب ودابة الارض

 

المناسبات الدينية والاعياد فقدت ظواهرها الندية وصارت مغلفة برائحة البارود وصوت المدافع واضواء قنابل الموت والدمار… اليوم هو مناسبة دينية عظيمة يوم عرفة وما اعظم المكان والزمان.. وجدت نفسي اتجه نحو الكتابة واجترار الذكريات لسنوات عن هذا اليوم وما يليه من مطاهر حياة وفرح يوم عرفة والعيد ايام التشريق وحياتنا السابقة في بلدي ومكان (دفن صُرتي) *والليلة الوقفة وبكرة العيد* اضافة الي ان هذا هو اول عيد اضحية يمر علينا ونحن نفتقد (شين شوفتك) يا ابوي و يا وطني مع (شينات) اخري كنت تحبها يا ابوي نعشقها في وجودك رحمك الله… (شربوت) العيد مع (الشية) و(الشطة) مع (دكوتها) طريقة تحضيرها الخاصة مع (العتي) و(الشاي اللحمر) و الاتكاءة و(الدروخة) بعد صلاة الظهر بفعل هذه (الشينات) الجميلة والمفقودة برحيلك ووطنها…..

 

عيد الاضحية السابق كان اثناء هذه الحرب وفقد الكثير من نكهته القديمة لم انم ليلتها فقد كنت مريضاً ومكتئباً وهو اول عيد لي لم اذهب فيه لصلاة العيد ولم يكن مانعي هو المرض ولكن هناك شئ ما منعني من الذهاب للصلاة واظن انه نفس المانع الذي جعل الوالدة تعزف عن تحضير (الشربوت) واحضرت البلح لزوجتي التي قامت الواجب… اذكر عندما حضر (عثمان خالي) من الصلاة وزارني بالبيت وجدني بملابس النوم(سروال طويل وفنلة داخلية) احتضنته وبكيت بكاءاً حاراً وبكي معي وصبرني بكلمات طيبات فذهبت للحمام بعد ان افرغت شئ مما اعتمل صدري ودواخلي لا ادري ما هو فاغتسلت و تزينت بالجديد وذهبت عند الوالدة فوجدت الاهل عندها فقبلت راسها وبكيت كثيراً جداً وكاني لم ابك من قبل … ثم اختلست النظر لمكان الذبيحة حيث يجلس والدي قبلت راسه و لا ادري لماذا تجلدت عنده ولم ابكي اطلاقاً وتصنعت ابتسامة وفرحة ادرك صناعتها بحسه و رقته العالية..

 

قبل اخر عيد له في هذه الدنيا كان كالعادة في يوم عرفة يتصل علي كي اذهب اليه بالسيارة لجلب البهائم فكل الاسرة الممتدة تعتمد عليه في امر الاضحية والمغتربين كان وكيلهم في امر الاضحية… اذكر في احد الاعياد السابقة ان اتصل بي كي احضر (البوكس) لرفع الخراف وتوزيعها علي بيوت اصحابها من الاهل كان العدد كبيراً وعندما انزلت الخراف وجدت ان احدها قد مات نتيجة اختناقه تحت بقية الخراف وعندما اخبرته قال لي خلاص (اعتبر المات دا حقي) و وزع الخراف علي اهلها و(انا سوف اضحي في الشماليه عند اخوي) لقد كان اخر عيدين يحملان تفاصيل غريبة وغير معتادة (مات خروفه وضحي عني في ذات الوقت حين قال لي انا بضبح للاولاد ديل) وفي العيد الاول اثناء الحرب وقبل وفاته( ضحينا) انا وهو رحمه الله بخروفين من الخراف التي اتتنا هدايا لعودتي بالسلامة من رحلة الاستشفاء بالقاهرة

 

كنا في بيت الوالد رحمه الله نذبح خمسة خراف في اول يوم يكون الوالد وكيلاً عن اضحية اخواني واخواتي وفي اليوم الثاني نكون مع خالتي يذبح ايضاً هناك بالوكالة ثلاثة خراف وتجتمع الاسرة عندنا في اليوم الاول ومع خالتي في اليوم الثاني.. وكنت رحمك الله المحور في كل هذا الزخم… ياالله… ما اجملك واجمل العيد قربك رحمك الله…

الان تنهمر دموعي وانا اكتب مثلما انهمرت في عيد ما قبل الحرب وانا مريض وقتها ومكتئب وقد دخلت في حالة صمت لايام اذكر انني قلت لك بنبرة ومشاعر مختلطة اني لن اضحي هذا العام لم يعجبك حديثي رحمك الله لكنك لم ترد ولكن تحركت شفتاك ومخارج الصوت عندك لتُخرج ما يفوق التبسم ويقل عن الضحك يصور خليط من المشاعر غير المتجانسة وبها شئ من عدم الرضا عما قلته لك واصرار منك ان ما خرج مني خطأ و انه لن يحدث وانا موجود فقلت لي بشكل صارم لا يخلو من العطف (لو ما داير تضبح انا بضبح للاولاد ديل) وانصرفت… وكان اولادي حولي وقتها ولم استطع حبس دموعي التي تحولت الي (جعير)…وبكاء شديد

 

الان اتذكر نشاطك في مثل هذه الايام منذ طفولتنا في بيتنا القديم والاسرة الممتدة وانت تذبح وتسلخ بيدك وتكسر وتقطع بنفسك وتعلمنا كيف نمسك وكيف نقطع وكيف تُنظف (الكرشة) وكيف يُفرغ المصران داخلها اذكر (امي الحاجة) التي كان عيد الاضحي عندها طويلاً ومبهجاً و ممتعاً يبدأ بتحضير (الشربوت) ولا ينتهي مع (الربيت) وفي يوم الذبح كنت معها حريصاً ان اراها وهي تخلق من الامعاء بعد نظافتها عملية إقلاب للمصران ليكون باطنه ظاهرا وظاهره باطناً وغسيله جيداً لصناعة ضفيرة طويلة ومن ثم تقطيعها….. رحلت (امي الحاجة) ورحلنا بعدها في توالٍ الي بيوتنا الجديدة ومعنا كل الارث القديم…

 

كنت احب ان اراك يا ابوي وانت تنفخ الفشاس بطريقة كنت استمتع لها جداً حتي صارت بعد ذلك من العمليات المفضلة بالنسبة لي والتي علمتها اولادي و ما كنت اعلم اننا سوف نهرب من (مدافن الصُرة) بالعيلفون وتشردنا الحرب في بقاع الدنيا.. اذكر الان انني كنت اكل كليتي الخروف بعد الذبح مباشرة وقبل ان تصل (صينية العفشة) للحريم واقول لهن ضاحكاً ان (الخروف دا ما فيهو كلاوي) فترد اسرعن في الاجابة (سجمي دا خروف شنو دا)… كانت ايامنا حلوة واعيادنا بهجة وصلاة العيد بالعيلفون ونوباتها وطاراتها وراياتها والتهليل والتكبير وصوت الباعة والاطفال يخالط صوت الخراف الصلاة هناك ذات طعم مختلف اما طعم اللحوم و(الشية والشطة والشربوت) فهذه حكاية اخري وحياة اصبحت مثل الحلم الان في ظل القتال الدائر بالسودان و صوت الخراف اصبح سخرية في الاسري (قول بااااع) اما (شوفتك) يا ابوي رحمك الله نسال الله ان يكتبها لنا في الجنة واعلم اننا بدونك لم نضحي ولم ندفن (كبير اخوانو) و فارقنا (مدافن الصُرة) بالعيلفون ولا ندري هل من عودة لتلك الديار وهل ستكون قبورنا هناك في الارض التي ضمت قبرك وقبله( حبالنا السرية والتبائع) ام في مهاجر الشتات.. اسال الله في هذه الساعات المباركة ان يرحمك ويغفر لك ويدخلك الجنة…

واسال الله ان يعود الامن والامان لبلادنا وان نسعد باعيادنا ومظاهرها…

وكل عام والجميع بخير والوطن معافي وامن تعمه المحبة والسلام

 

سلام

محمد طلب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى