مقالات الرأي
أخر الأخبار

استلهام تجربة دولة سنغافورة في النهضة والتطور ✍️ البروفسيور: فكري كباشي الأمين العربي

النهضة السنغافورية لم تكن وليدة اللحظة بل كانت نتائج جهود جبارة من قبل بطل الدولة السنغافورية “لي كوان يو” فقد ظهر أمام الإعلام وهو ينهش بالبكاء بعد قرار ماليزيا بالانفصال والتخلي عن جزيرة سنغافورة التي كانت جزء منها فوجهت ماليزيا الصفعة عام 1965م للبلد الصغير والفقير ومحدود الموارد حيث عانت كثيراً من الفساد الإداري والمالي والأمني وكانت تصنف سنغافورة آن ذاك واحد من أخطر الأماكن في العالم لتعرضها للجرائم والسرقات فقد كان يسودها انفلات أمني بشكل كبير جداً.

وتُعدّ جمهورية سنغافورة بلداً بالغ الصغر من ناحية المساحة. فمساحتها عند نيل الاستقلال عام 1965، لم تكن تتجاوز نصف مساحة البحرين، أو عُشر مساحة إمارة دبي ( ولا أود المقارنة بأية من أقاليم وولايات السودان بمواردها ).

كما أنها لا تمتلك أي موارد طبيعية على أراضيها. فما من نفط البتة!، وما من غاز طبيعي ولا تملك أي ثروة معدنية يمكن التنقيب عنها. أضف إلى ذلك، أنها نالت استقلالها في وقت يعُجّ بالاضطرابات في منطقة تفتقر للاستقرار السياسي. ومما زاد الطين بلة، احتوائها على نسيج سكاني متعدد الأعراق. حيث يمثل الصينيون منه ما نسبته 75% بالمئة، في حين يمثل المالايو 15% والهنود 8%. وإذا ما التفتنا للمعتقدات فالحال ليس أفضل، فأمامنا مزيج شديد التنوع منها يضم المسلمين والمسيحيين والهندوس والبوذيين والطاويين وغيرها من الأديان والطوائف. بمعرفة هذا، من غير المستغرب أن يتوقع المراقبون الخارجيون بثقة حينها أن سنغافورة لن تقوم لها قائمة، وأن سبب فشلها سينتج عن ضغط خارجي أو اضطراب داخلي. لكن وعكس كافة توقعاتهم، أصبحت سنغافورة الدولة الأكثر نجاحاً في تاريخ البشرية الحديث، حيث تمكنت من تحسين مستوى معيشة شعبها بوتيرة أسرع، وأكثر شمولية من أي دولة أخرى على الإطلاق..

وفي مؤشر جودة الحياة التي تنشره “وحدة الاستخبارات الاقتصادية” في مجلة “الايكونوميست”، حصلت سنغافورة على الدرجة الأولى في آسيا والمرتبة الحادية عشرة على مستوى العالم وتمتلك تاسع أعلى احتياطي في العالم ولدَى الدولة جيش وطني مجهز بشكل جيد ويعتمد على أحدث الأسلحة ووفق مؤشر هينلي وشركاؤه للقيود على التأشيرات عام 2014 احتل الجواز السنغافوري المركز السادس على مستوى العالم حيث يمكن من حمله دخول 167 دولة من دون تأشيرة مسبقة. وأصبحت الآن رابع أهم مركز مالي في العالم وخامس أغنى دول العالم من حيث احتياطات العملة الصعبة، ثالث أكبر مصدر للعملة الأجنبية حيث يصل إلى سنغافورة خمسة مليون ونصف سائح سنوياً، بلغ معدل الدخل الفردي من النتاج القومي الإجمالي أربعة وستون ألف دولار في عام 2013م لتحلل سنغافورة الترتيب الثالث على مستوى العالم. معدل البطالة لا يصل إلى ثلاثة بالمائة وتعتبر المركز المالي والتكنولوجي الأول في المنطقة. أنظف مدينة في العالم جميلة المنظر طيبة الهواء فناطحات السحاب والمباني ذات الأشكال الهندسية الحديثة والراقية وشموخ النخيل والأشجار والحدائق الخضراء الجميلة تجعل منها جنة في الأرض.

كيف أصبحت سنغافورة، وهي مجرد جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا، لا تملك أي موارد طبيعية، واحدة من أكثر الدول تطوراً في العالم؟ وكيف تمكّن نظامها الحكومي وبنية السياسات القائمة فيها من إنشاء أهم الاقتصادات وخلق أكثر المجتمعات نجاحاً على مستوى العالم في غضون بضعة عقود لا أكثر؟ ما هي “الخلطة السرية” الكامنة وراء نجاح سنغافورة؟ يكفي للمرء أن يلقي نظرة على المكوّن الأساسي لهذا النجاح، ألا وهو: النظام القائم على الجدارة. فمن خلال مزيجٍ فريدٍ من السياسات التي تمنح الأولوية للجدارة والكفاءة والاستحقاق على أي صفة أخرى، تمكنت سنغافورة من تطوير نظام تعليمي مُنصِف للجميع، وخدمة مدنية عامة متقدمة تضمن فعالية العمل الحكومي، وترفع مستويات الإنتاجية الوطنية، وتحقق التنمية المستدامة، وتُرسي التماسك المجتمعي. لقد كان نظام الحوكمة بالجدارة حقاً، بمثابة الريح الدافعة لأشرعة سنغافورة نحو التقدم ، وبعد عودة “لي كوان يو” من جامعة اكسفورد كان محامياً جيداً وسياسياً محنك وهو أول أمين عام وعضو مؤسس لحزب العمل الشعبي. ورأى ما وصلت إليه بلده من مستوى التخلف والرجعية مما كان يزيده ذلك أكثر حسرة وندامة على وطن ينظر إليه البعض بأنه خارج الكوكب الأرضي جاءت الانتخابات البرلمانية وفاز “لي كوان يو” بمنصب رئيس وزراء الجمهورية السنغافورية وحكمها لمدة ثلاثة عقود متتالية صنع نهضة حديثة في ظل تلك الظروف الصعبة والشاقة التي شهدتها بلده.

تلقى الكثير من الصدمات أثناء حكمه فليس كان باليد شيء ليفعله سوى شعب فقير متخلف وحكومة عائشة ومتعودة أن تعيش على الفساد الإداري والمالي والاخلاقي بلد يعمه الرشاوي ونهب المال العام وخلافات ونزاعات عرقية مجتمعية بين أكثر من ثلاثة أعراق صينيون وملاويين وهنود وسكان شرق آسيا كان يحلم بأن ينقل سنغافورة من دول العالم الثالث إلى العالم الأول. بنى وطناً للمواطن وليس وطناً له حيث كانت الجزيرة مجرد قرية للصيادين تخلو من الموارد الطبيعية اسسها السير “توماس ستامفورد رافلز” عام 1819م وظهرت أهميتها كميناء لسفن البحرية منذ ذلك الوقت.

بدأ “لي كوان يو” يغير في أنظمة بلده وسن قوانين جديده شيء فشيء ووضع حاجز للفساد الاداري والمالي لحكومته وشعبه، استطاع “لي كوان يو” أن يبني نهضة اقتصادية وأن يجعل بلده من أهم بلدان العالم كما كان يحلم حيث اعتمدت سياسته في الاستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج وتطوير المستوى الانساني والصناعي بمجملة شقت سنغافورة طريقها معتمدة على الثروة البشرية وذوي الكفاءات، رأى “لي كوان يو” أن لا نهضة اقتصادية إلا في استثمار الفرد ذاته وتأهيله فوضعت مناهج علمية حديثة وركزت على بناء المعلم فهو القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة. يتعدى سكانها خمسة مليون ونصف نسمة مساحتها 2776 ميل مربع. وبذلك يعتبر “لي كوان يو” أسطورة من سحر الماضي ومجد المستقبل استطاع “لي كوان يو” باني النهضة السنغافورية أن يخمد كل تلك النزاعات العرقية داخل البلد حيث وحد اللغة وجعل أولويات الوطن هي الأولى وطبقها على جميع الطبقات الدينية والعرقية وأن الوطن ملك الجميع.

يُعد اقتصاد سنغافورة اقتصاد سوق حُر كما صُنف اقتصاد بانه الأكثر انفتاحًا في العالم وثالث أقل اقتصاد من حيث الفساد كما صُنف أيضا كأكثر اقتصاد يدعم الأعمال التجارية أما مُعدلات الضرائب في سنغافورة فهي مُعدلات مُنخفضة (14.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، وتحتل البلاد المركز الثالث في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد (تعادل القُدرة الشرائية. إلى جانب كون اقتصاد سنغافورة اقتصادا داعما للأعمال التجارية، تلعب الشركات المملوكة للدولة دورًا كبيرًا في اقتصاد البلاد. يمتلك صُندوق الثروة السيادية المُسمى تيماسيك القابضة حصص الأغلبية في العديد من الشركات الكُبرى في البلاد، مثل الخطوط الجوية السنغافورية وسينغ تل وإس تي إنجينيرينغ وميديا كورب يُعتبر الاقتصاد السنغافوري مُمولًا رئيسيًا لتدفُق الاستثمارات الأجنبية المُباشرة في العالم. استفادت سنغافورة أيضا من التدفُق الداخلي للاستثمارات الأجنبية المُباشرة من المُستثمرين والمُؤسسات العالمية بفضل مُناخها الاستثماري الجذاب للغاية، وأيضا البيئة السياسية المُستقرة في السنوات الأخيرة. وتتنوع صادرات سنغافورة بين مجال الإلكترونيات والمواد الكيميائية وصناعة الخدمات، وتُعد الصادرات المصدر الرئيسي للدخل لاقتصاد البلاد. لا تتوفر لدى سنغافورة موارد طبيعية بشكل كاف، خصوصا الموارد المائية التي توجد بنسب شحيحة، لذلك تعتمد البلاد بشكل كبير على دول أخرى من أجل استيراد الموارد الطبيعية والسلع الخام التي تفتقر إليها. تحظى البلاد بمكانة مُحترمة على المستوى الإقليمي باعتبارها مركزا لإدارة الثروات , كما تمتلك سنغافورة مساحات محدودة من الأراضي الصالحة للزراعة، لذلك تعتمد البلاد بشكل كبير على مُجمعات التكنولوجيا الزراعية من أجل الإنتاج الزراعي، ويُعد مركز بيوبوليس رائدا في هذا المجال تُعد الموارد البشرية قضية حيوية أخرى بالنسبة للاقتصاد السنغافوري. احتل اقتصاد سنغافورة سنة 2014 المرتبة الثانية بشكل عام في تصنيف “التكنولوجيا الحيوية العلمية الأمريكية” (بالإنجليزية: Scientific American Biotechnology)‏. كما ذكرت تعتمد سنغافورة على شراء السلع الخام وتكريرها بغرض إعادة تصديرها، كما هو الحال في صناعة الرقائق وتكرير النفط..

تمتلك سنغافورة ميناء استراتيجي يجعلها أكثر قدرة على المنافسة من العديد من جيرانها في تنفيذ مثل هذه الأنشطة التجارية. حيث احتل ميناء سنغافورة سنة 2017 المرتبة الثانية من حيث حركة البضائع بين موانئ العالم تُعد نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي في سنغافورة من بين أعلى المُعدلات في العالم، حيث بلغ مُتوسطها حوالي 400٪ خلال الفترة 2008-2011. وللحفاظ على مكانتها الدولية وتعزيز ازدهارها الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين، اتخذت سنغافورة تدابير لتعزيز الابتكار، وتشجيع روح المبادرة، وإعادة تدريب الايدي العاملة. تعتبر وزارة القوة العاملة الجهة المسؤولة عن وضع وتعديل وتطبيق قواعد هجرة العمال الأجانب، حيث يعمل في سنغافورة ما يقرب من 243 ألف عامل أجنبي.

البروفسيور: فكري كباشي الأمين العربي.

٢٥ ابريل ٢٠٢٤م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!