مقالات الرأي
أخر الأخبار

ملعون أبوكي بلد -( من الواقع ) – ✍️ بروفيسور عوض إبراهيم عوض

نحن البلد الوحيد الذي يتداول الأمثال السلبية في حياته أكثر من الأمثال الإيجابية، وكأن من وضع هذه الأمثال في تراثنا لا يريد لنا إلا الشر. وكي لا يتهمني الآخرون بالتشاؤم أو التطاول على أمتنا وتراثنا وتاريخنا اسمعوا معي بعضاً من أمثالنا التي توارثناها وما زلنا نتداولها في حياتنا منذ أن كنا في الكتاتيب صغاراً وإلى اليوم. يقول أحد أمثالنا الشهيرة: (الزيت كان ما كفى البيت حرام على الجيران)، وهذا قمة الأنانية وعدم التفاني في خدمة الآخرين بل وعدم الإثرة على النفس رغم أن القرآن الكريم يقول: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). ويقول أحد أمثالنا القبيحة مبنىً ومعنى: (جلداً ما جلدك جرو في الشوك). لا حول ولا قوة إلا بالله. إنها دعوة لسحل الآخرين وإيذائهم حتى النخاع. وأظن أن هذا هو الذي يفعله فينا أعداء الإنسانية في هذه الأيام لأنهم امتثلوا له ونفذوه حرفاً حرفاً حيث مرمطونا في الشوك حتى سالت دماؤنا بالطول والعرض. ونقول في أحد الأمثال التي لا تقل إسفافاً عن سابقاتها: (المرة كان بقت فاس ما بتكسر الراس) والمرة في حديثنا الدارجي تعني (المرأة) بتخفيف الهمزة كما كان يفعل العرب القدامى في تخفيف الحروف الثقيلة. ولو تأملنا في هذا المثل نجد أنه غاية في الإساءة والتتفيه للمرأة مهما كانت رغم أنها هي الأم والزوجة والإبنة والشقيقة والعشيقة. وهو لعمري مثلٌ لا بد أن نكافح ضده ما حيينا لأنه يسيء إلى تاريخ النضال الذي خاضته نساؤنا عبر الزمن ناهيك عن جهود أمهاتنا من أجل صنع الحياة الكريمة من خلال تربية الأطفال ومجابهة مرارات الحياة في غياب الرجال في معظم الأحيان. بل إن المرأة السودانية على وجه التحديد أبلت بلاءاً عظيماً منذ عهد الكنداكات اللائي نفاخر بهن، ثم مروراً بمهيرة بت عبود ورابحة الكنانية وبت مسيمس وملكة الدار ومندي بنت السلطان عجبنا إلى عصر خالدة زاهر وفاطمة أحمد إبراهيم وسعاد الفاتح وغيرهن من العظيمات اللائي حفرن أسماءهن بأظافرهن في سجل التاريخ الناصع. فكيف نقول إنها إن بقت فاس ما بتكسر الراس؟ أوليس هذا المثل الضال المضل يتضارب مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء). وحديثه الآخر: (رفقاً بالقوارير). نعم إن أمثالنا الشعبية مليئة بالسلبيات التي لو ركنا إليها لضيعنا القيم والأخلاق والنخوة التي في نفوسنا. أسمع لمثلٍ آخر يقول: (أسمع كلام الببكيك وما تسمع كلام البضحكك)، وهذا المثل قد يبدو في ظاهره إيجابياً ولكن في باطنه سوء نية لا يخفى على فطنة العقلاء. فالذي يضحكني قد يكون أبي الذي يحكي لي عن طرائف حياته التي تسعد قلبي وتبعد عني النكد والهم والغم. وقد يكون الذي يضحكني هو أحد فرسان الكوميديا الذين برفهون عن نفسي في لحظات الاكتئاب والضجر. وقد يكون الذي يضحكني هو أحد الأصدقاء أو الأشقاء الذي يحدثني عن إنجازاته وإبداعاته في مسارات الحياة. وقد يكون الذي يضحكني هو حبيبتي التي أركن إليها لنبني عشاً سعيداً في مقبل الأيام. فلماذا أتشاءم وأسمع كلام الذي يبكيني ولو كان أحد الجنجويد الذين يأتون إلى بيتي في الليل حاملين السواطير ويقولون لي أخرج من هذا المنزل وإلا فسنفرغ فيك هذا الكلاشنكوف، وأعطنا مفاتيح السيارة والخزنة ودهب المدام. هذا هو الذي يبكينا جميعاً هذه الأيام وتصر أمثالنا المشؤومة أن تقول: (أسمع كلام الببكيك وما تسمع كلام البضحكك). ونقول في أحد أمثالنا الأخرى التي نبعت من دارفور: (أبصلمبويتك ولا كدكاي زول) بمعنى أن ما تملكه لنفسك أفضل مما يملكه غيرك ولو كان ما تملكه هو (أبو صلمبوية) وهو نوع من الفئران الضعيفة والخسيسة ولا فائدة منه، في حين أن الكدكاي على العكس منه له سطوة وهيبة وربما بعض الجمال. وشيء آخر يصر عليه الكثيرون عندما يأتي إلى بيتك فقير يطلب المساعدة فتقول له: (الله يدينا ويديك)، لماذا تبدأ بنفسك الأنانية ولا تقول له (الله يديك ويدينا) على الأقل تشعره بأنك تؤثره على نفسك وتدعوا له أولاً ثم لنفسك ثانياً. وفي واقع الأمر إن السلبيات التي تزكم الأنوف تملأ قاموس أمثالنا الشعبية وتعصف بأي خير يمكن أن ندخره لمستقبل أجيالنا أو نستثمره للحياة الرغدة الكريمة. بل والأدهى والأمر من كل هذا أننا البلد الوحيد في العالم الذي يسيء أبناؤه إليه في كل صباح ومساء. ففي حين يقول جيراننا الأقربون عن بلدهم: (مصر أم الدنيا) ويكتبون في كل مداخل مدنهم في المطارات والموانئ ومحطات السكة الحديد (مصر أولاً) نقول نحن: (ملعون أبوكي بلد). لك الله يا وطني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!